Thursday 11 February 2016

عشرون عامًا مضت

في تلك الغرفة الباردة المليئة بالأنابيب وزجاجات الادوية رأيتك ممددا على ذلك السرير المعدني شاخصا بعينيك بعيدا، نظرت الى تلك التجاعيد التي كانت تملأ وجهك الشاحب وعروقه الزرقاء الظاهرة. أخذت أنادي عليك كثيرا لكنك لم تجب، لم أكن أعلم هل كان ذلك بسبب تأخري في المجيء إليك وإنشغالي باللعب مع صديقتي بمنزلها أم أنك مثلما يقولون في ما يسمى بـ "الغيبوبة"، ذلك اللفظ الذي كان من الصعب وقتها على طفلة ذات العشر سنوات مثلي أن تتفهم معناه.

لا أكاد أذكر شيئا آخر من هذا اللقاء، ولكني أتذكر اليوم التالي، أتذكر رؤيتي لابن خالتي لأول مرة حاملا على عنقه سماعة الطبيب بجوار سريرك بالمنزل، كان أيضا يهمس في أذنها بشيء لم أستطع تمييزه، ولكني لم أعرهم إهتماما لفرحتي بوجودك هنا بعد مرور عام تقريبا أمضيته بتلك المستشفي الكئيبة التي طالما كرهتها. نعم فالآن سأراك وقتما أشاء بدون مواعيد الزيارة التي كنت أمقتها لأنها دائما كانت وقت دوامي الدراسي. وفرحت أكثر الآن عندما سمعتها تنادي علي قائلة: "تعالي يالا سلمي عليه".
عندما اقتربت رأيت نفس الوجه الشاحب وتلك العروق الزرقاء ولكني وجدتك مغمض العينين، لم أعلم كيف استطعت النوم الآن وكل هؤلاء حولك بالغرفة؟! انت الذي لم تعتد النوم الا في الهدوء التام، ذلك الهدوء الذي طالما أجبرني علي إغلاق التلفاز فترة قيلولتك اليومية قبل موعد الغداء!

وسط تساؤلي بماذا يفعل كل هؤلاء هنا طبعت قبلة على جبينك ثم وجدتها تخبرني بإصرار ان أذهب الى منزل جارتنا، ويد تسحبني خارجًا. لم أعلم لم كل هذا الإصرار ولكني امتثلت لأوامرها ليقيني التام بأنها لن تكف عن ذلك الإصرار وستظل تكرر نفس الكلمات على مسامعي. علمت بعدها بدقائق سبب الصراخ وصوت عربة الاسعاف. لم أعلم أيضا لماذا لم ابك في تلك اللحظة.

جلّ ما أتذكره عنك مجرد بضعة تفاصيل ضئيلة تضيء في ذاكرتي كوميض كاميرتك الحمراء- تلك التي كنت تحرص دائمًا على التقاط الصور بها في كل مناسبة- تصاحبها في الخلفية صوت أغنية "يا حلو صبّح يا حلو طل" التي كنت تفضل سماعها يوميًا في الراديو منذ السادسة صباحًا حتى في أيام أجازتنا. أشعر معها بالهواء الرطب في وجهي، نفس احساسي عندما كنت تأخذني علي دراجتك – الحمراء أيضًا-  لنذهب الى المدرسة سويًا، نعم فقد كنت أنا ابنتك المدللة التي تصطحبها معك في العطلات الرسمية لزيارة اخوتك في مدينة طنطا، وكنت دومًا تقول لهم "دي اخر عنقودي" وتأخذني بعدها لشراء الحلوى.

أستطيع أن اسمع الآن ضحكتك الرنانة المميزة في أذني عندما أخبرك أن كل أصدقائنا يخافون من منزلنا باعتباره منزلا مهجورا مثل تلك المنازل الموجودة بأفلام الرعب، لكني طالما وجدت طمأنينة به، كنت دوما أقول انك مازلت موجودا هناك. ولكن عندما حان وقت استقلالي بعيدًا عن ذلك المنزل الذي تربيت به منذ نعومة أظافري تساءلت: هل كنت ستؤيد تلك القرارات أم ستكون مثل كل الآباء الشرقيين؟ هل كنت ستدعمني؟
يوما بعد يوم أجد العمر يمر بي يا أبي، صرت امرأة لا تشبه تلك الصغيرة "آخر العنقود " التي كانت تتأرجح بين يديك، ولكن قلبي مايزل نفسه ذلك الطفل المتشبث بك..
كم كنت دائمًا أفتقد وجودك خاصة وقت الأعياد، أفتقد هديتك السنوية لي في صبيحة عيد الميلاد المجيد، فوجدتني يومًا أشتري من ذلك التمثال المصنوع من الشيكولاتة من نفس البائع الذي اعتدت أن تشتري لي منه علّني أشعر بالدفء ووضعته بجانبي علي السرير كي تراه عيناي أول شيء يوم العيد. أخبرت نفسي أن سانتا هو من أحضره كما كنت تقول لي منذ عشرين عاما !

مع كل إنجاز في حياتي العملية أفكر هل انت سعيد وفخور بي؟ ام ستفضّل مثل اخوتي مقاطعتي؟أم انك ستتجه الى عدم المبالاة مثلما اعتادت هي ان تفعل؟  
أبي.. ها أنا اليوم أجدني تخطيت عامي الثلاثون، أجد نفسي بدونك كالتائهة في الصحراء الممتدة، أقف كالشجرة بدون جذور راسخة في الأرض لتأخذني الرياح حيثما تشاء.
كم افتقد يداك الحانيتان لتربت على كتفي عندما ابكي، نعم فأسرتي لم تهتم يوما بالاحضان او الملامسات الجسدية، لا اعلم هل انت ايضا مثلهم ام كنت ستفضل احتضاني؟

واليوم في ذكرى رحيلك أجد تلك العشرون عامًا لم تستطع أن تمح تلك الصور من ذاكرتي مثلما لم تقدر ان تمح ذلك الغضب من قلبي...


6 comments:

  1. يخرب بيتك خلتينى اعيط
    ميجو

    ReplyDelete
    Replies
    1. :) فتكرتك وكنت هكتب عن شجرة المانجا

      Delete
  2. تكمن قيمته في وجودك و افكارك و لربما يمتلك راحه الان علي عكس ما نعانيه نحن هنا ... تعيشي و تذكريه كل عام بكل خير

    ReplyDelete
  3. تكمن قيمته في وجودك و افكارك و لربما يمتلك راحه الان علي عكس ما نعانيه نحن هنا ... تعيشي و تذكريه كل عام بكل خير

    ReplyDelete
  4. عيطتنى يا نانسي

    ReplyDelete