Monday 10 February 2020

أبي،
لا أعلم لماذا أقرأ كثيرًا عن الغربة الآن، خاصة وأني قد عاهدت نفسي ألا أفتقد شيئًا. فكثيرًا ما وددت الهرب إليك كلما فاجأتني الحياة بأمر ما، ولكنك لست هنا. رحلت سريعًا، وبدأت غربتي في منزلي. لم أستطع أن أتخذك قدوتي، فلا أستطع القول أني كنت متفوقة في دراستي. كنت بالكاد أنجح. رغبت في ممارسة أبوّتك علي؛ مثل أن تمنعني من الذهاب لمكان ما أو تؤنبني لتأخري، أن تسأل عني وقد غادرت لتوي من ربع ساعة، وتغلق الهاتف في وجهي قبل أن أكمل حديثي. 

وعندما اشتد عودي، ابتعدت عن كل ما يذكرني برحيلك، عن جدران تلك الغرفة التي كانت تعكس صوتك، عن ذلك المنزل الذي يحمل اسمك على يافطته.
اضطرتني الظروف للذهاب مجددًا لذلك البيت الذي حاولت الهرب منه في الآونة الأخيرة، حتى أن الغبار قد احتل كل تفاصيله. البيت الذي كان عامراً بالحياة منذ أكثر من عشرين عامًا. كان يجب أن أقوم وحدي بعملية الإخلاء، وأن ألملم أشيائنا كلها منه. عندما اقتربت من الانتهاء، نظرت إلى المرآة في وسط المنزل، وجدتها مغبشة من كثرة الغبار، مسحتها بقطعة قماش، ثم ألقيت نظرة أخيرة على تفاصيل البيت. وقفت في وسطه، نظرت إلى غرفتي، غرفتك، الصالون، غرفة المعيشة، وأغمضت عيناي مودعة البيت وكأنني أودع صديقًا عزيزًا. ورحلت.
أخذت معي بعض من أشيائك، ساعتك، نظارتك الشمسية، بعض الصور القديمة لك في هذا البيت الذي ولدت به. ظل السؤال يراودني وقتها: "هل تحزن أشيائهم عليهم بعد رحيلهم؟" انتبهت عندما وجدت ساعتك تعمل بكفاءة، بالرغم من مرور ٢٤ عامًا! طبعت قبلة عليها، ودسستها في حقيبة سفري كي تلازمني.

لن أخبرك عن آلامي وأحزاني وعن ضربات الحياة وخيبات الزمن والأحباب حتى يومنا هذا. لا أريد منك أن تقلق لأجلي فابنتك قوية، حسنًا، أعترف لك أنني لست قوية إلى ذلك الحد.

أحيانًا أشعر أنك تعيش بداخلي في تفاصيل صغيرة أقوم بممارستها مثلما كنت تفعلها أنت أيضًا. ربما ورثتها منك أيضًا. ربما أيضًا ذلك بسبب حرص أمي على فعل الأشياء بطريقتك وأن تجعل الأشياء تجري كما خططت ورسمت أنت.
يقولون أنني أحمل شكلك وورثت منك سمات وجهك. أبتسم في كل مرة يُطلب فيها مني ذكر اسمي، أتذكر أنك أنت من منحني هذا الاسم وأنطق اسمك معه. 
لا أحب في هذا البلد نطق اسم جدي واقترانه بإسمي في كل الأوراق، فأنا لا أعرفه إلا من صورته المعلقة بالصالون وبإحدى الجمعيات الخيرية. أعدك بتغيير ذلك الاسم لاحقًا، حتى ولم يستطع الناس هنا نطقه بسهولة.

أبي، رأيت مرارًا ذلك ال "بوست" على شبكات التواصل الاجتماعي قائلًا: "أحدهم يحكي عنك كأنّك أعظم انتصاراته" هل أنا هي؟ 

لست أدري لماذا بعد كل هذه السنين من فقدك لازلت أول من يزورني طيفه إذا تملكني الحزن، فأردد: "فقط لو كان أبي هنا." أرهقتني الحياة. السير وحدي يرهقني. والآن أحمل غربتي لأوطان أخرى، متجولة بشوارعها، أحملق في وجوه ناسها علي أرى وجه يشبهك. يقولون أنه "في الغربة خصصوا مكاناً لكل شيء إلا البكاء"

ربما لو كنت رحلت دون وداعك فقد يكون هناك أمل في اللقاء، فأنا مؤمنة أن "اللقا نصيب".

أكتب سطوري، ثم أستعد لممارسة مهام حياتي اليومية الجديدة، محاولة أن أصنع لنفسي روتينًا، لعلي أتناسى. وتظل صورتك في محفظتي.